العيد خلف القضبان.. آلاف الأسر العربية تستقبل المناسبة وسط الغياب القسري والاعتقال التعسفي

العيد خلف القضبان.. آلاف الأسر العربية تستقبل المناسبة وسط الغياب القسري والاعتقال التعسفي
أزمة الغياب القسري والاعتقال التعسفي

في الوقت الذي تشهد فيه الشوارع العربية طقوس العيد التقليدية من زينة وزيارات واحتفالات، تعيش آلاف الأسر في المنطقة فراغًا مؤلمًا بسبب غياب أبنائها القسري أو اعتقالهم دون محاكمة، ما يحوّل المناسبة من فسحة للفرح إلى تذكير دائم بالمعاناة الإنسانية المستمرة في عدد من دول الشرق الأوسط.

هذه ليست حالات فردية، بل ظاهرة ممنهجة تُظهر عمق التدهور في سجل حقوق الإنسان، وتكشف كيف باتت مواسم الأعياد محطات يختلط فيها الألم بالأمل، وسط غياب العدالة واستمرار الإفلات من العقاب.

في سوريا، يستمر ملف الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري كواحد من أبرز أدوات القمع. وفقًا لتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان الصادر في أبريل 2024، فإن أكثر من 132,000 شخص لا يزالون في عداد المختفين قسريًا منذ عام 2011، غالبيتهم في مراكز احتجاز تابعة للنظام السوري، لا سيما سجن صيدنايا، المعروف بظروفه غير الإنسانية.

أوضاع تنتهك المعايير الدولية

كما تؤكد منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر في مايو 2024 أن المعتقلين في هذه السجون يُحتجزون في أوضاع تنتهك المعايير الدولية، حيث تنتشر حالات التعذيب والحرمان من الرعاية الصحية. وتعتبر المنظمة أن الاعتقال في سوريا "جزء من منظومة قمع ممنهجة تهدف إلى إسكات كل من يعارض النظام أو يطالب بالإصلاح".

في اليمن، لا يقل المشهد قسوة. فالصراع المستمر منذ نحو عقد من الزمن أنتج شبكة من السجون الرسمية وغير الرسمية يديرها أطراف متعددة في النزاع. تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2024 يشير إلى أن جماعة الحوثي تحتجز أكثر من 9,500 معتقل، كثير منهم في سجون سرّية، حيث يُمنعون من التواصل مع محامين أو عائلاتهم، ويتعرض بعضهم للتعذيب.

كما تتهم المنظمة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا بتنفيذ اعتقالات تعسفية بحق صحفيين ونشطاء ومدنيين، لا سيما في المناطق التي استعادت السيطرة عليها من الحوثيين. وتفتقر هذه الاعتقالات لأدلة قانونية أو ضمانات محاكمة عادلة.

هذه الانتهاكات لا تقتصر على المعتقلين وحدهم، بل تطال بشكل مباشر عائلاتهم، الذين يعيشون حالة من القلق المستمر والغموض. فوفقاً لتقارير محلية وحقوقية، يقضي آلاف الأهالي في سوريا واليمن مناسبات العيد وهم يتنقلون بين السجون أو يترقبون خبرًا عن مصير أبنائهم من معتقل خرج حديثاً أو تسريب من منظمة دولية.

وتشير بيانات منظمات الإغاثة العاملة في اليمن وسوريا إلى أن ما يزيد على 60% من الأسر المتضررة من حالات الاختفاء القسري أو الاعتقال تعاني من اضطرابات نفسية واجتماعية حادة، وتتطلب دعمًا طويل الأمد.

غياب المحاسبة الدولية

رغم تصاعد الأصوات الحقوقية، فإن المحاسبة لا تزال غائبة بشكل فعّال. وبحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، فإن معظم الدول المعنية بهذه الانتهاكات "لا تتعاون مع آليات الأمم المتحدة، وترفض فتح تحقيقات مستقلة، مما يكرّس ثقافة الإفلات من العقاب".

في تقرير صدر في مايو 2024، أشارت المفوضية إلى أن 85% من السجون في الدول المتأثرة بالنزاعات في الشرق الأوسط "لا تستوفي الحد الأدنى من معايير معاملة السجناء"، في حين أن التعاون مع هيئات المراقبة الدولية لا يزال محدودًا جدًا أو معدومًا في بعض الدول.

في ليبيا، حيث لا تزال الفوضى السياسية تسيطر على المشهد منذ سقوط نظام القذافي، يعاني آلاف المعتقلين من ظروف احتجاز قاسية في مراكز احتجاز غير رسمية تديرها جماعات مسلحة، دون أي إشراف قضائي. وفقًا لتقرير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الصادر في مايو 2024، تحتجز وزارة العدل الليبية 19,103 شخصًا في 28 سجنًا رسميًا، بينهم 216 امرأة، بينما يُحتجز العديد من الأشخاص الآخرين في سجون غير رسمية تديرها الميليشيات، حيث يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة في انتهاك صارخ للقانون الدولي

أما في العراق، فقد أعلنت منظمة العدالة العراقية في تقريرها السنوي لعام 2024 أن هناك أكثر من 25,000 معتقل، منهم حوالي 6,000 محتجزون دون محاكمة عادلة. وتشير شهادات معتقلين سابقين إلى أن بعض السجون، خاصة في المناطق التي شهدت صراعًا ضد داعش، تمارس اعتقالًا انتقاميًا بحق المدنيين، دون أي سند قانوني.

في الجزائر، وعلى الرغم من الحراك الشعبي السلمي الذي انطلق عام 2019، لا تزال السلطات تتبع نهج الاعتقال السياسي. أكدت منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر في فبراير 2024 أن السلطات الجزائرية تواصل قمع حرية التعبير والتجمع السلمي، حيث تم اعتقال مئات الأشخاص بشكل تعسفي، بينهم صحفيون ونشطاء حقوقيون، لمجرد تعبيرهم عن آرائهم أو مشاركتهم في احتجاجات سلمية

في موسم العيد، يتشابه المشهد في هذه الدول: لا زيارات منتظمة، ولا رسائل تروي شوق الأهل، بل إجراءات أمنية تعسفية تشلّ حق المعتقلين في أبسط أشكال التواصل الإنساني. في بعض السجون، يُمنع المعتقلون من أداء صلاة العيد، وفي أخرى تُقطع عنهم الزيارات بحجة "أمنية"، كما تؤكد تقارير متعددة من منظمات محلية ودولية.

ليست المعاناة مقتصرة على من هم خلف القضبان، بل تمتد، كأثر رجعي للقمع، إلى أسر المعتقلين. في ريف دمشق، تروي والدة معتقل منذ سبع سنوات أنها لم تُحضر ملابس العيد منذ اختفائه، وأنها تضع صورة ابنها كل عام في صدر البيت كأنه سيعود. وفي صنعاء، تبيع أم مختطف آخر مقتنياتها تدريجيًا لتغطي نفقات المحامين والرحلات اليومية للبحث عنه، دون جدوى. الألم هنا لا يُقاس فقط بغياب شخص، بل بانقطاع الحياة نفسها عن مسارها.

في المقابل، تعلن بعض الحكومات عن "مبادرات إنسانية" بمناسبة العيد، ففي العراق، تم الإعلان عن الإفراج عن 3,000 سجين في عيد الفطر 2024، لكن منظمات حقوقية مثل "مركز بغداد للعدالة الانتقالية" أكدت أن الإفراجات شملت فقط المحكومين في قضايا جنائية، ولم تشمل أي معتقل سياسي. وفي الجزائر، أفرج عن 1,200 شخص في العيد ذاته، إلا أن تقرير الرابطة الحقوقية أكد أن "الإفراجات كانت انتقائية ولم تشمل نشطاء الحراك".

المنظمات الدولية، من جهتها، تواصل تحذيراتها من تفاقم الأوضاع. ذكرت منظمة العفو الدولية في تقرير مايو 2024 أن 85% من السجون في الدول المذكورة لا تستوفي الحد الأدنى من المعايير الدولية لمعاملة السجناء، بينما أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن "الاعتقال التعسفي أصبح أداة دائمة لقمع المعارضة، لا استثناء ظرفي".

ومع كل هذه المآسي، يظل هناك بصيص من أمل. جمعيات محلية، مثل "رابطة أهالي المختفين في سوريا"، و"جمعية أمهات المخفيين في اليمن"، تواصل نضالها بلا كلل، تنقل ملف ذويها من منظمات المجتمع المدني إلى أروقة الأمم المتحدة، على أمل أن يأتي العيد القادم بفرج طال انتظاره. وفي تونس، نجحت حملة دولية بقيادة "هيومن رايتس ووتش" في الضغط على الحكومة للإفراج عن ثلاثة معتقلي رأي في مايو الماضي، وهو ما اعتُبر انتصارًا جزئيًا لكنه محفز لبقية العائلات.

مع كل عيد، يتكرر السؤال ذاته: كم من السجون يجب أن تُفتح، وكم من القلوب الجريحة يجب أن تندمل، قبل أن تعود الفرحة كاملة؟ ومتى يصبح العيد عيدًا لكل الناس، لا مناسبة موسمية تذكّر البعض بغيابهم القسري من الحياة؟

 فرحة منقوصة خلف القضبان

عبّر إبراهيم شيخو، مدير منظمة حقوق الإنسان في عفرين – سوريا، عن قلقه العميق إزاء الأوضاع الإنسانية المتدهورة للمعتقلين في السجون ومراكز الاحتجاز في العالم العربي، مشيرًا إلى أن مواسم الأعياد التي يُفترض أن تكون محطات للفرح واللقاء، تتحوّل في كثير من الأحيان إلى مواسم للحزن والانتظار والقلق، في ظل غياب آلاف المعتقلين والمفقودين قسرياً عن أحضان أسرهم ومجتمعاتهم.

وأكد في تصريحات لـ"جسور بوست"، على أن “الفرحة بالعيد لا تكتمل لا داخل السجون ولا خارجها، ما دام هناك أبناء وبنات، آباء وأمهات، ينتظرون خلف القضبان أو يجهلون مصير أحبّائهم المختفين منذ سنوات”، وأضاف: "كثير من المعتقلين يعيشون حالة نفسية مأساوية، إذ يحلّ العيد وهم في انتظار لقاء لن يتحقق، أو خبر عن أبنائهم لا يأتي، أو حتى رسالة من عائلاتهم المنقطعة عنهم منذ سنوات".

وأشار إلى أن آلاف العائلات في سوريا ومناطق أخرى من العالم العربي تجهل مصير أبنائها المختفين قسرًا منذ عام 2011، وهو ما وصفه بـ"الجرح المفتوح الذي لم يُعالج، بل يتم تجاهله محليًا ودوليًا"، وتابع: "تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى وجود أكثر من 150 ألف شخص مفقود في العالم العربي، أغلبيتهم في دول تشهد نزاعات أو تخضع لأنظمة بوليسية تتعامل مع المواطن باعتباره تهديدًا أمنيًا دائمًا".

ويرى شيخو أن العيد في هذه المجتمعات ليس سوى "فرحة منقوصة"، تختلّ فيها التوازنات الاجتماعية والنفسية، وتُحرَم فيها الأسر من أبسط حقوقها في لمّ الشمل، وقال: "لا يمكن الحديث عن استقرار نفسي أو بيئة اجتماعية سليمة حين يغيب أفراد الأسرة قسرًا، وتُمنع عنهم الزيارة أو المعرفة بمصيرهم. فكيف يُطلب من أطفال نشؤوا بلا آباء في المعتقلات أن يحتفلوا؟ كيف يمكن لأم تنتظر ابنها منذ عقد أن تفرح؟".

وشدد على ضرورة أن تتبنى الحكومات العربية قوانين استثنائية في مناسبات الأعياد، تتيح الإفراج عن المعتقلين الذين قضوا نصف المدة، أو أولئك الذين مضت عليهم سنوات وهم محتجزون دون محاكمة، أو على ذمة التحقيق دون حسم قضيتهم، مضيفاً: "من غير المقبول أن يبقى آلاف الأشخاص في حالة قانونية معلّقة إلى أجل غير معلوم. الإفراج عنهم لا يُعدّ فقط إجراءً قانونيًا، بل هو فعل إنساني يعيد شيئًا من التوازن إلى عائلات مزّقها الغياب".

كما دعا إلى تحسين شروط الزيارة في الأعياد، ورفع القيود الصارمة المفروضة على تواصل المعتقلين مع أسرهم، وخاصة الزوجات والأطفال، مشيرًا إلى أن "زيارة واحدة في العيد، وإن كانت قصيرة ومشحونة بالخوف، قد تُحدث فرقًا في حياة إنسان ينتظر منذ سنوات خلف الأسوار". وندد بما وصفه بـ"القسوة الممنهجة في التعامل مع المعتقلين حتى أثناء الزيارات، حيث تُفرّغ تلك اللحظات من أي قيمة عاطفية أو نفسية بسبب الإجراءات الأمنية المشددة، أو المضايقات التي يتعرض لها الأهالي".

وأكد شيخو أن "منح المعتقلين حقوقهم الأساسية ليس ترفًا، بل واجب قانوني وإنساني تفرضه المعايير الدولية"، لافتًا إلى أن أغلب الأنظمة العربية تتعامل بازدواجية مع هذه الحقوق، حيث تُمنح في بعض الأحيان بشكل رمزي، وتُنتزع في أوقات أخرى تحت ذرائع أمنية أو سياسية.

وختم بالقول إن منظمات حقوق الإنسان تُعدّ صوت المعتقلين في المحافل الدولية، وتمثل مرآة لواقع حقوق الإنسان المتدهور في بلداننا، لكنها بحاجة إلى تمكين فعلي ودعم ممنهج لكي تؤدي دورها بفعالية. "نقل معاناة المعتقلين إلى المجتمع الدولي لا يتم بالشعارات، بل عبر آليات قانونية ودبلوماسية واضحة. على الحكومات والمؤسسات الدولية أن تتيح لهذه المنظمات مساحات حقيقية للعمل، وتستمع لما تنقله من شهادات ونداءات".

تصريح شيخو يأتي في وقت تتصاعد فيه دعوات منظمات دولية للإفراج عن معتقلي الرأي والمحتجزين تعسفياً، خاصة في مواسم الأعياد، باعتبارها مناسبات رمزية يُفترض أن تجمع لا أن تُفرّق، تُحيي لا أن تُطفئ الأمل في نفوس العائلات التي تنتظر عامًا بعد عام، أن يعود الغائب بلا موعد.

العيد في غزة ناقص بغياب الأسرى

قال محمد عبد الناصر، أحد سكان قطاع غزة، إن غياب الأسرى الفلسطينيين عن ذويهم خلال المناسبات الدينية، وخاصة في عيد الفطر وعيد الأضحى، يترك جرحًا نفسيًا عميقًا في نفوس العائلات، لا يندمل بمرور الزمن، وأضاف أن هذا الغياب يتجاوز مجرد فقد جسدي، ليصبح غيابًا عن كل تفاصيل الفرح التي تُميز العيد، من صلاة الفجر الجماعية، إلى لحظة الإفطار، والذبح، وشراء ملابس العيد للأطفال، وزيارات الأقارب، "فكل مظاهر العيد التي اعتدنا عليها في غزة، تفقد بريقها حين يغيب أحد أفراد العائلة في سجون الاحتلال"، يقول محمد، مضيفًا أن هذا الغياب لا يُعوّض، ولا يمكن تجاوزه بسهولة، خاصة عندما يكون الأب أو الأخ أو الابن معتقلاً خلف القضبان.

وأشار في تصريحاته لـ"جسور بوست"، إلى أن معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال تزداد حدة في المناسبات الدينية، حيث يُحرمون من رؤية أحبائهم أو حتى سماع أصواتهم. وفي الوقت الذي تجتمع فيه العائلات على موائد العيد، تظل الزنازين شاهدة على عزلة قاسية، وظروف احتجاز لا إنسانية، تنعدم فيها أدنى مقومات الراحة الجسدية أو النفسية. وأوضح أن الاحتلال يفرض قيودًا صارمة على زيارات الأسرى، وغالبًا ما يتم السماح بها بعد انتهاء العيد بأيام، وكأنها محاولة متعمدة لحرمانهم من اللحظة الرمزية التي تشكل جوهر المناسبة.

وأكد محمد أن منظمات حقوق الإنسان تبذل جهودًا متواصلة لتخفيف هذه المعاناة، من خلال المتابعة القانونية، وتوثيق الانتهاكات، والمطالبة بتوفير الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية للأسرى. إلا أن هذه الجهود، وعلى أهميتها، تظل غير كافية في ظل منظومة القمع الإسرائيلي المتصاعدة، والتي لا تعترف غالبًا بالمعايير الدولية لمعاملة الأسرى.

وختم تصريحه قائلاً: “نحن لا نطلب المستحيل، فقط نريد لأسرانا أن يعيشوا كرامتهم، وأن يعودوا لأحضان عائلاتهم، فكل عيد يمر دونهم هو جرح جديد، وكل لقاء مؤجل هو فقدان لحظة إنسانية لا تعوّض.”



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية